لم أتصور بعد بوضوح ، كيف أن واقعنا شيء والتعاليم التي تسميها (نظرية) في ديننا شيء آخر . فهل تتفضل بإزعاج نفسك وتضرب لي أمثلة على ذلك ؟ .
-أولا أطلب منك أن تعدل تعبيرك هذا : التعاليم التي أسميها نظرية. فأنا لم أسمها نظرية إلا بعد أن صيرناها نحن نظرية بحتة . اما هي في ذاتها فأعترف أنها حاولت أن تكون عملية الى أقصى حدود المحاولة التي نطيقها نحن البشر . حتى إن القرآن صور لنا الجنة في صورة حسية نكاد نلمسها لمسا . وجعل عملنا الذي نقوم به فى هذه الحياة من أجل الدخول الى الجنة عملية تجارية : تفعل الخير في هذه الحياة لنحصل على الجزاء في الآخرة . وأعترف أيضا أن ذلك متناسب تماما مع طبيعة البشر .
-إننا لا نفعل شيئا ولا نتقنه بالخصوص – إلا إذا كانت لنا فيه منفعة ملموسة . ولعل هذا التصوير الناجح الذي نجده في القرآن لخيرات الجنة هو الذي جعل المؤمنين الأولين يتسابقون الى الاستشهاد ويغبط الأحياء منهم الأموات حتى أصبح قادتهم يهددون القياصرة والملوك بقولهم : (إننا أتيناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة وهذه نتيجة حية من نتائج تلك التعاليم (العملية) التي جاء بها الاسلام . وأظنك لست في حاجة لأن أسرد لك التاريخ، وكيف تحجرت فيما بعد ـ تلك التعاليم العملية وأصبحت (قواعد) صيرت المسلمين – كما يقول الشيخ باديس – (قواعد) من النساء . – هذه – إذن ملاحظة على الهامش . أما المثل فهو الآتي : لا تذهب بعيدا . أنا وأنت الآن نبحث في هذه الأحاديث أوضاعنا الفاسدة وتحاول أن نرجعها إلى أسبابها ، وتفتح أمامها مخارج الى آفاق متفتحة . أليس هذا هو غرضنا ؟ .
-نعم .
ولكن ألم تشعر بأننا نفعل ذلك بعقلية نظرية بحتة ؟ أعني أننا (تتحدث) ولا (نحلل). تتحدث عن مبادئ عامة أو ذكريات في التاريخ أو نستشهد بتصرف فلان أو قولة فلان . ولكننا قليلا ما نحلل أوضاعنا القائمة أو نربط ظواهرها الاجتماعية بأسبابها النفسية كما يفعل الأوروبيون: نتهم تجارنا مثلا بأنهم يغتنمون فرصة رمضان أو جائحة سنوية ليحتكروا المواد ويرفعوا أسعارها ، وكذلك يفعل الصناع وغيرهم . ثم نقف عند هذا الحد. أما الأوربيون فيتناولون هذه الظاهرة بتحليل من نوع آخر ويطلقون عليها – في علم الاقتصاد مصطلحا خاصا يسمونه بالقيمة الذاتية). – ما معنى هذا المصطلح الغريب ؟
– معناه أن الأوربيين يحددون أسعار بضائعهم تحديدا (موضوعيا). ونحن نحددها تحديدا (ذاتيا).
– لم أفهم بعد
ـ أعرف أنك لا تفهم مصطلحات القرن العشرين : التاجر أو الصانع أو المنتج على العموم في أوربا يحدد أسعار بضائعه بعد أن يقوم بعملية حسابية مضبوطة تتناول ثمن الشيء وهو مادة خام ، قبل أن يصنعه ، ثم أجرة العمل الذي أنفقه في تحويله الى بضاعة مصنوعة ثم يضع هامشا للربح تتمشى مساحته مع التكاليف العامة أي أنه يحدد ثمن التكاليف العامة ثم يضيف إليه ما يناسبه من ربح ، ثم يضع ثمنه عليه كحق من حقوقه المشروعة لا ينازعه فيه أحد ، وسواء اشتريته منه أم غيرك فالثمن لا يتغير ، ولا ينزل أو ينخفض بحسب الوجه الذي يشترى .
وهذا ما يسمى بالتحديد الموضوعي : يتناول موضوع الثمن لاحالة من يشتري البضاعة .
أما عندنا نحن فالأمر يختلف عن ذلك . التاجر أو الصانع قل أن يعرف بالضبط ثمن التكاليف التي ينفقها على الشيء وماذا كانت هذه التكاليف قبل أن يصنعه وبعد أن يهيئه للبيع أو قبل أن يشتريه وبعد أن يعرضه بدوره على المشتري . وتأتي مرحلة البيع فتبدأ المعركة بين البائع والمشتري : معركة المساومة التي لا حد لها والتي لا يعرف فيها المشتري أبدا اذا كان البائع قد غشه في الثمن أم لا . كما لا يعرف البائع أبدا هل حقق هامشا من الربح يتمشى تماما مع التكاليف أم أن الثمن الذي باع به بضاعته ليس فيه هامش ربح على الاطلاق وانما هو باعه برأسماله أو دونه بقليل أو كثير.
يقول عنا علماء الاقتصاد الأوربيون إن تاجرنا أو صانعنا يحدد سعر بضاعته لا حسب تكاليفها المضبوطة ، بل حسب وجه المشتري الذي يقصده : ان كان وجه مغفل لا يعرف الأسعار فالثمن يرتفع بصورة آلية الى حد مخيف . وان كان وجها تبدو عليه علائم الفطنة والتجربة كان الثمن – بعد المساومة طبعا – منخفضا الى حد مدهش وهذا هو التحديد الذاتي : لا يتناول الشيء نفسه بل يتلون حسب حالة المشتري . وهكذا أصبحت كل عملية تجارية – عظيمة كانت أم صغيرة – تجرى في أسواقنا، هي في الواقع عملية مراهنة أو قمار أو سرقة أو اختلاس أو كلمة أخرى من كلمات التحايل والكذب ، ولكنها ليست عملية تجارية طبيعية يعرف فيها البائع ثمن تكاليفه وهامش ربحه، ويعرف المشتري أنه سواء اشتراها من هذا التاجر أو ذاك ، وسواء كان التاجر مصليا أو خمارا فذلك لا دخل له في التجارة أو الصناعة ، والمشتري اذن مطمئن على أنه لم يخدع فيها . واذا قمت بعملية إحصائية لوقتنا الذي نضيعه – باعة ومشترين – في المساومة والتحايل والاصطياد تدرك مبلغ الخسارة التي تتعرض لها في استنزاف أوقاتنا وأعمالنا في هذه العملية التافهة ولكننا لا نشعر بذلك لأن الوقت عندنا من رمل وليس من ذهب .
إلا أن فداحة الخَطْبِ تسري الى ميدان آخر، وهو أن تكرار هذه العمليات في حياتنا عدة مرات فى اليوم ومشاركة الطبقات والفئات الاجتماعية فيها من أطفال ونساء ورجال وشباب – يجعلها تنتقل من المحيط الخارجي الى المحيط النفسي ، الداخلي ، وترسخ فينا بحكم التكرار وتتخذ طابعا من العمق والتأصل حتى تصبح عادية لا تلفت الأنظار ، وتتسرب الى مختلف مجالات حياتنا النفسية فتصبح أخلاقا يتعامل بها الأب مع أبنائه وزوجته ، والطالب مع معلمه والشعب مع الحكومة والحكومة مع الشعب . ويصبح مجتمعا يعيش بالشذوذ ولكنه يراه طبيعيا ، وهذا ما يسمى بالمجتمع المتفسخ : لا من الناحية الاخلاقية فحسب بل من ناحية التكوين ذاته .
تنفسخ الألوان في نظرنا ويصيبنا ما يسمى في علم النفس بعمى الألوان – فلا نفرق بين الأبيض والأسود ، ولا بين الربح المشروع والسرقة المقنَّعة، ويختلط الذكاء بالحيلة، والعجرفة بالشجاعة، والخبث بالدبلوماسية والجشع بالطموح ، والغرور بالحيوية ، والفوضى بالنشاط ، والتدجيل والتدين والبلاهة بالاخلاص ، وتنطمس معالم الاشياء والقيم ويستوي الماء والخشب ، والحب والمنفعة، والفن والتجارة، والعلم والمكر، والطبيعي والمفتعل، وتتداخل الحدود بين الاخوة والمراوغة، والحق والتسلط، ويصبح الواجب هو براعة الفرار منه .
-وأخيرا هل ستقف عند حد في سرد هذه السلسلة ؟ وما هو الحل ؟
نعم ، سأقف ، الأحسن أن أقف . أما الحل فهو سهل : لماذا نزعج أنفسنا بالحديث عن هذه المآسي ونحن في شهر رمضان الكريم ومقبلون على عيده الكريم أيضا ؟ أليس من الأفضل أن نعود الى طبيعتنا : طبيعتنا السمحة المتسامحة ونعدل عن محاسبة أنفسنا بهذه الطريقة المؤلمة التي يعاملنا بها أولئك الأوربيون؟ إن الحل الذي أعرف أنك ترغب فيه، تجده في هذه القصة: سأل معلم تلميذه في عملية حسابية على الشكل الآتي : خرج شيخ أعمى فى ليلة مظلمة تراكمت فيها الثلوج . فَكَانَ يَضَعُ عَصَاهُ في الثَّلْجِ وهو يمْشِي فَتَغُوصُ رُبْعَ مِتْرٍ . وَطُولُ العَصَا مِتْرٌ وَاحِدْ . فكم يبقى من العصا خارج الثلج ؟ فبقى الطفل ساكتا . فقال له المعلم تكلم .
فيم تفكر ؟ فقال التلميذ : إنني أفكر لماذا خرج هذا الشيخ الملعون في هذه الليلة الملعونة حتى أوقعنا في هذه المشكلة.
-يا له من شيطان بارع هذا التلميذ
-بالضبط انك تعجب ببراعته وحيلته فى التهرب من الحل أما حل المشكلة الحسابية فقد نسيته . إنك ترغب في الحل (البارع) لا في الحل المفيد). وهذا ما يجعلك – دون أن تشعر – تلجأ في حل مشاكلنا الى التعاليم النظرية غافلا عن الحل المفيد.عبد الله شريط
عبد الله شريط. كتاب: معركة المفاهيم